ذات الشاعر أمام أسئلة الراهن العربي

21/11/2021

المصدر-جريدة الشرق الاوسط











بأي لغة يكتب الشعر العربي اليوم؟ سؤال مركزي كان في صلب النقاش الذي شهده اللقاء الشعري الثاني، المنظم، على مدى يومين، ضمن فعاليات الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي الـ42، الذي أسدل الستار على فعالياته قبل يومين، بمشاركة مجموعة من النقاد والشعراء العرب.

انطلق اللقاء بجلسة افتتاحية أدارها الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين، تخللتها مداخلات لكل من محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، والشاعر البحريني قاسم حداد، والشاعر الأردني زهير أبو شايب، والشاعر والروائي المغربي ياسين عدنان، تلتها جلسة مسائية، خصصت للقراءات الشعرية، أدراها قاسم حداد، بمشاركة الشاعر الفلسطيني غسان زقطان، وزهير أبو شايب، والشاعر المغربي المهدي أخريف، والشاعرة المصرية نجاة علي، والشاعرة المغربية إكرام عبدي، والشاعر المغربي حسن الوزاني. فيما تواصل اللقاء في يومه الثاني بجلسة نقدية ثانية ترأسها ياسين عدنان، بمشاركة الشاعر والباحث المغربي محمد حجو، والشاعرة والصحافية اللبنانية ليندا نصار، والشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري.

خلال جلسة الافتتاح، قدم ماجدولين للقاء بحديثه عن لحظة تأمل واحتفاء بفن طالما اعتبر فناً أول في الثقافة العربة الإسلامية. وبعد أن استحضر موضوع اللقاء الأول الذي تمحور حول المشهد الشعري العربي في مشهد ثقافي متحول، واصل تقديمه للقاء «لغة الشعر العربي اليوم»، طرح أسئلة تشكل المحاور الرئيسية للندوة: عن أي لغة نتحدث، إن كانت لغة واحدة، ولماذا اختار عدد كبير من الشعراء أن يكتبوا ضمن محلية ضيقة، ضمن لغات تخص مجتمعاهم، ولماذا اختاروا الانتماء إلى مجتمعات ثقافية عبر لغات أخرى، ثم انتمى كل هذا المنتج إلى ما يسمى بالشعر العربي اليوم، بشكل يمثل روافد تغني مشهداً واحداً؟

من جهته، استحضر بن عيسى عدداً من كبار الشعراء الذين شاركوا في فعاليات سابقة من موسم أصيلة، مشيراً إلى أن «الشعر سيظل ملاذ الإنسانية، وأن هذا اللقاء الشعري، كفسحة زمنية في برنامج الموسم، لا يغطي الخريطة الشعرية في العالم العربي والمهاجر، وأنه ليس تمثيلاً لكل الأصوات الشعرية والتجارب واللغات، بل إنه حلقة استثنائية يراد لها أن تكون أشمل وأكبر، بحيث تصبح تقليداً بالموسم على غرار ورشات الفنون التشكيلية».

وتحدث بن عيسى أيضاً عن عدد من المشاريع والاقتراحات التي ترمي إلى تأكيد مكانة الشعر ضمن فعاليات موسم أصيلة، مشيراً إلى فكرة «مشيخة الشعر»، التي قال إنها يمكن أن تكون ملتقى يتحدث فيه الشعراء ويقوده و«يُشيخ» عليه أحد كبار الشعراء.

أما قاسم حداد، فقال إن الشعر هو أصدق تاريخ للعرب، إذا نظرنا إليه كتراث تحت المعالجة النقدية، وليس تراثاً مقدساً، وأن اللغة نظام مؤلف من عدة مستويات، صوتية ونحوية ودلالية، وغيرها.

ورأى أن القصيدة هي متوالية لفظية تتكرر من خلالها العلاقات بين تلك المستويات المختلفة. فاللغة، هنا، هي مصدر الشعر وأفقه ومداه، «فأنت لا تصل إلى الشعر إلا بلغتك، بخصوصيتك اللغوية، لذا يتوجب عليك أن تتصرف شعرياً، كما لو أن اللغة هي ملكيتك الخاصة».

وأشار المحاض أن اللغة هي للعشق وليست للقداسة، وأن الإخلاص للغة لا يتمثل في تقديسها، لكن في حبها حد الاحترام دون تصعيدها حد التبجيل.

وختم حداد ورقته بملاحظتين تتخلص أولاهما في قوله إنه لا ينفي الموسيقى في الشعر والكتابة. فالموسيقى تتجاوز التفعيلة والوزن والبحور. أما الثانية فتتمثل في إشارته إلى أن الكلام لم يعد الآن عن الشاعر الوحيد الأوحد بوصفه مقياساً لغيره، بعد أن صارت اللغة الشعرية شخصية جداً، بحيث لا تجوز المقارنة بين الشعراء، من منطلق أن على كل شاعر، بلغته الخاصة، أن يقنع القارئ بأن ما يكتبه هو شعر بالفعل.

أما زهير أبو شايب، فأشار في بداية مداخلته إلى أن القصيدة تشبه كاتبها دائماً، وأن اللغة التي تكتب بها القصيدة العربية الراهنة هي ابنة الواقع الذي يعيشه شاعرها بكل ما فيه من أحلام وكوابيس وتشرخات وهموم وتشوهات وتشوفات.

ورأى أبو شايب أن الشعر العربي يقف اليوم في بؤرة الزلزال الجمعي ويرسم بجسده ولغته المضطربة صورة للفوضى والانهيارات التي تحدث، مشدداً على أنه «يبقى علينا أن نعترف بأن هذا الشعر، كما يكتب الآن، ليس بخير، وأن انهياراته وهدياناته ليست دليل عافية على الإطلاق، ولذلك علينا أن نعترف بأن عزوف المتلقي العربي عن هذا الشعر هو في أحد وجوهه موقف نقدي لا واع من هذا الشعر، وليس مجرد تعبير عن الخراب الثقافي العام الذي تعاني منه الأمة العربية».

وأضاف: «علينا أن ندرك بأن خطاب القصيدة هو مجرد تفصيل صغير من تفاصيل الخراب العام، وأن ظواهر التحلل والفساد وبلبلة اللسان التي تعتري الكتابة الشعرية العربية الآن، ليست من صنع الشاعر وحده، بل هي من صنع الذات الجمعية العربية برمتها».

وذهب أبو شايب إلى أن «تشريح الخراب يقتضي منا أن نقرأه بأناة وسعة صدر، وأن نكف عن الاكتفاء بإدانته والترفع عنه، وكأننا لا نتحمل مسؤولية وقوعه». لكنه استدرك بقوله إن هذا الشعر هو الشعر الوحيد الذي يشبهنا في اللحظة الراهنة، وبالتالي يبقى علينا أن نعيد قراءته بوصفه شاهداً على الخراب لا مشهداً من الخراب.

وشبه أبو شايب الشاعر العربي الحديث بالشاعر الجاهلي، «فهو شاعر طللي، يتحدث عن خرائبه اللغوية التي يقف عليها ويتهم بأنه صنعها، مع أن الزمن هو الذي صنعها، وأنه يهذي لا لكي يتم تقديس هذيانه، بل ليخبرنا عن الحمى التي تفتك بجسده الجمعي وتحول رؤاه إلى كوابيس؛ وأن ما يكتب اليوم من شعر طللي هو تعبير عن الخراب، لكنه مقدمة حتمية للعمران».

من جهته، انطلق ياسين عدنان من الأرضية التي تؤطر للقاء الشعري، مشدداً على وضعية السؤال، ومن ذلك هل يمكن الحديث اليوم عن شعرية عربية متعددة اللغات واللهجات، أم أن اللغة أصل كل شعرية؟ وهل تتطلب خصائص شعرية ما من خارج اللغة، أم تتحقق بعيداً عن معجمها، وبالتالي هل يمكننا اعتبار ما يكتبه اليوم الشعراء المغاربة، على سبيل المثال، جزءاً لا يتجزأ من الشعر العربي المعاصر، أم أن الإنتاج الشعري المغربي تتوزعه شعريات متعددة؟ ثم ماذا عن القصيدة الزجلية المعاصرة، وماذا عن الشعر المكتوب بالأمازيغية؟ وماذا نقول حين نسمع شاعراً بقيمة محمود درويش، يقول: «من لغتي ولدتُ/.../ من أنا؟ /.../ أنا لغتي أنا». وتساءل عدنان عن الذي يقصده درويش... هل يقصد اللغة العربية التي كتب بها دواوينه، أم لغته الشاعرة الفردية الخاصة التي يبدعها الشاعر من داخل اللغة الإطار؟

ورأى عدنان أن الشاعر لا يعثر على لغته «لقْـيَة في الطريق ولا يجدها خارج ذاته ولا خارج اللغة ذاتها»، فلغة الشاعر تدرك بالمكابدة وعبرها.

خلال الجلسة الثانية، ياسين عدنان، الذي أدار الجلسة، عن محاولة تلمس خصوصية الشاعر «في ذهابه الحر، الفردي والمرهف باتجاه لغة تحسب له أكثر مما تحسب باللغة، وتتشكل في قصيدته وعبر كلماته أكثر مما تتشكل عبر العام والمشترك الذي يغرف منه الشعراء».

من جهته، طرح د. محمد حجو في مداخلته قضية الغموض في الشعر، مشيراً إلى أنها مشكلة عند البعض ومعضلة عند البعض الآخر، كما أنها ظاهرة فنية وقيمة جمالية عند البعض الآخر، مشيراً إلى أنها طامة ليست بالصغرى حينما تركبها أصوات تعتمد الضجيج اللغوي والرنين النشاز بكلمات، تتوسل ترصيف وتركيب الكلام وحشوه، الخالي من أي حرارة دلالية تربط مكوناته وأطرافه.

وهو يرى بأن الغموض يمثل قيمة فنية يمكن أن يصيبها الشاعر في ارتباط بصدق تجربته، منتقداً ترصيف الكلام كما ترصف الأحجار، حيث يوهم الشاعر الناس أنه يبدع الشعر أو ينظمه.

من جهتها، تناولت الشاعر اللبنانية ليندا نصار اللغة الشعرية من زاوية بناء المجهول الجمالي، مستحضرة قولاً لمحمود درويش يرى فيه أننا نجد حلولنا في اللغة التي نصالح فيها ما لا يتصالح.

وقالت نصار إن الشاعر يفكر بوساطة اللغة «بوصفها إمكانية لفهم الذات وتعالقاتها بهوامش الواقع، وذلك بحثاً عن المجهول الجمالي الذي لا يدرك إلا بالرؤيات الحالمة، وأن الشاعر يترك علامات التشوير في قصائده التي تحتاج إلى قارئ بليغ قادر على فك الرموز، وما يتضمنه من خطابات ثقافية مدسوسة بخفة يد الساحر، في الحضور كما الغياب»، ومن هنا فإن اللغة، كما أضافت، «ترمم التاريخ المنسي فينا ومن حولنا».

من جهته، تناول الشاعر المغربي عبد اللطيف الوراري، اللغة بوصفها قضية جوهرية في الشعر اليوم. لكنه يرى أن هناك «بعض المخاطر التي تتهدد مستقبل الشعر، وأن أخطر واقعة جمالية، وبالنتيجة سياسية وثقافية، واجهت الشاعر العربي بعد ميلاد حركة الشعر الحر، تتمثل فيما سمي بجدار اللغة. وتهدد ثلاثة مخاطر، رأى أنها تتهدد لغة الشعر ومشروعها الجمالي، وهي الرقمنة والنمطية السائدة والشعر المترجم كيفما اتفق».

>