العدالة الرقمية الصينية في مواجهة الديموقراطية الأمريكية

عبد القادر الكاملي -مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات



نشرت الصين في شهر يوليو/تموز 2017 استراتيجيتها للذكاء الاصطناعي التي تضمنت ثلاث محطات، هي: بلوغ مستوى الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال عام 2020، والتفوق عليها عام 2025، والهيمنة على صناعة الذكاء الاصطناعي عالمياً عام 2030. فهل نجحت الصين في بلوغ المحطة الأولى؟

 

انفردت الصين ضمن مجموعة العشرين بتحقيقها نمواً إيجابياً في ناتجها المحلي الإجمالي لعام 2020، قدّره صندوق النقد الدولي بنحو 2.6 بالمئة، فيما سجلت كافة دول مجموعة العشرين الأخرى نمواً سلبياً في العام ذاته.

قبل 15 عاماً، أي عام 2006، ووفق الأرقام التي نشرها صندوق النقد الدولي، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي (أي بالأسعار الجارية) للولايات المتحدة الأمريكية نحو 13.9 ترليون دولار، والناتج المحلي الإجمالي الاسمي للصين 2.8 ترليون دولار، أي أن حجم اقتصاد الصين كان يمثل نحو 20.1 بالمئة من حجم اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية.

اليوم ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الإسمي للولايات المتحدة الأمريكية 22.7 ترليون دولار، فيما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للصين 16.7 ترليون دولار أي نحو 73.6 بالمئة من الولايات المتحدة.

أما وفق مقياس تعادل القوة الشرائية (PPP)، المتداول على نطاق واسع عالمياً، فالصين باتت تتفوق على الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم، إذ قدر صندوق النقد الدولي قيمة اقتصاد الصين لعام 2020 بنحو 24.2 تريليون دولار أمريكي مقارنة بـنحو 20.8 تريليون دولار أمريكي للولايات المتحدة، وفق المقياس المذكور.

 

تضمنت قائمة الشركات الناشئة التي أعدها معهد هورون الصيني للأبحاث والتي صدرت في أغسطس 2020، قائمة بأسماء 586 شركة ناشئة تأسست في القرن الواحد والعشرين وتجاوزت قيمة كل منها المليار دولار ولم تدرج في البورصة بعد. ضمت القائمة 29 بلداً ليس بينها أي بلد عربي. وحازت الولايات المتحدة والصين على نحو 79 بالمئة من تلك الشركات حيث بلغت حصة الولايات المتحدة 233 شركة والصين 227 شركة. جاءت أربع شركات صينية بين الخمسة الأكبر من حيث القيمة السوقية، هي: "علي باي" مشغل مجموعة "آنت" ذراع الخدمات المالية الرقمية لمجموعة على بابا بقيمة 150 مليار دولار أمريكي، ثم شركة "بايت دانس" المملوكة لصاحب منصة مشاركة الفيديو تيك توك، بقيمة 80 مليار دولار أمريكي، ثم شركة "ديدي تشوكسينج" أكبر مزود لخدمات نقل الركاب في الصين، بقيمة 55 مليار دولار أمريكي، ثم منصة "لوفاكس هولدينج" لإدارة الثروات والاقراض عبر الإنترنت بقيمة 38 مليار دولار أمريكي. أما الشركة الخامسة فكانت "سبيس إكس" الأمريكية التي يملكها إيلون ماسك بقيمة 36 مليار دولار أمريكي. ومن الملاحظ أن جميع الشركات المذكورة تستخدم أحدث التقنيات الرقمية بما في ذلك الذكاء الاصطناعي.

 

وفق بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2019 نحو 613 مليار دولار على البحث والتطوير فيما أنفقت الصين نحو 515 مليار دولار في العام ذاته، أي نحو 84 بالمئة من الانفاق الأمريكي، وذلك وفق مقياس تعادل القوة الشرائية (PPP).

في مطلع القرن الحالي، كانت الصين تنفق سنوياً 33 مليار دولار فقط على البحث والتطوير، فيما كانت الولايات المتحدة تنفق ما يقرب من 10 أضعاف هذا المبلغ.

 

وعلى صعيد براءات الاختراع، أشار تقرير المنظمة العالمية للملكية الفكرية إلى أن الصين سجلت 68,720 براءة اختراع عام 2020 بنسبة نمو بلغت 16.1 بالمئة، فيما سجلت الولايات المتحدة الأمريكية 59,230 براءة اختراع في العام ذاته بنسبة نمو بلغت 3 بالمئة فقط. وأظهرت بيانات المنظمة أن عملاق الاتصالات الصيني هواوي سجل أكبر عدد من براءات الاختراع بين الشركات للعام الرابع على التوالي. وتجدر الإشارة إلى أن الصين تفوّقت على الولايات المتحدة في عدد براءات الاختراع للمرة الأولى في تاريخها، عام 2019 بعد هيمنة أمريكية امتدت لأربعين عاماً.

وفيما يتعلق بالجيل الخامس 5G نجد أن شبكاتها باتت متوفرة في 341 مدينة صينية مقابل 279 مدينة أمريكية عام 2021 (المصدر viavisolutions.com).

 

ووفق تقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي لعام 2021 الصادر عن جامعة ستانفورد حصلت الصين عام 2020 على النصيب الأكبر من منشورات الذكاء الاصطناعي بنسبة 18 بالمئة مقابل 12.3 بالمئة للولايات المتحدة الأمريكية. وذكر التقرير أن الصين احتلت عام 2019 المرتبة الأولى عالمياً في عدد الروبوتات الصناعية بإجمالي قدره 140 ألف وخمسمئة روبوت مقابل 33 ألف وثلاثمئة روبوت للولايات المتحدة الأمريكية التي جاءت في المرتبة الرابعة عالمياً.

 

ومن المؤشرات الأخرى التي تشير إلى التقدم الكبير الذي أحرزته الصين في بعض المجالات التكنولوجية هو ترتيبها العالمي في مجال صناعة الحواسيب العملاقة. فقبل 15 سنة، وضمن قائمة يونيو/حزيران عام 2006 لأقوى 500 حاسوب عملاق في العالم، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك 299 حاسوباً، وتحتل المرتبة الأولى عالمياً والصين تمتلك 28 حاسوباً فقط وتحتل المرتبة الرابعة عالمياً. اليوم، ووفق القائمة التي صدرت في 28 يونيو 2021، احتلت الصين المرتبة الأولى عالميا في عدد الحواسيب العملاقة الذي بلغ 187 حاسوباً بنسبة 37.4 بالمئة من الإجمالي فيما احتلت الولايات المتحدة المرتبة الثانية بعدد 122 حاسوباً بنسبة 24.4 بالمئة من الإجمالي. لكن تجدر الإشارة إلى أن خمسة حواسيب أمريكية عملاقة جاءت ضمن أقوى 10 حواسيب، فيما جاء حاسوبان صينيان فقط ضمن العشرة الأوائل.

 

المؤشرات السابقة تدل على أن الصين اقتربت من محطتها الأولى، لكنها لا تعني أنها تفوقت على الولايات المتحدة تكنولوجياً، فالولايات المتحدة لا زالت متفوقة في العديد من المجالات الأساسية كمستوى التعليم الجامعي، والهندسة الجينية، وصناعة أشباه الموصلات (Semiconductors) التي تحتاجها الصناعات الصينية المتقدمة بشدة والتي تعتمد عليها الولايات المتحدة في حربها التجارية مع الصين، لكن معدلات النمو المرتفعة التي تسجلها الصين سنوياً على كافة الأصعدة التكنولوجية باتت تثير الهلع لدى الولايات المتحدة الأمريكية.

في لقاء أجرته شبكة سي.إن.بي,سي (CNBC) مع ديفيد روش، الخبير الاستراتيجي العالمي ورئيس مؤسسة "الاستراتيجية المستقلة" في لندن في سبتمبر 2019، قال: "الصين ستربح الحرب التجارية ولن تعود بحاجة إلى التكنولوجيا الأمريكية في غضون 7 سنوات". الكثير من التحذيرات المشابهة أعادت ذاكرة الأمريكيين 64 عاماً إلى الوراء.

 

في عام 1957 كان الاتحاد السوفييتي سباقاً في إطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء باسم سبوتنيك. وتمثلت ردة الفعل الأمريكية في موجة إنفاق كبيرة على العلوم والابتكار أدت إلى إنزال أول إنسان على سطح القمر عام 1969. دفع التحدي الصيني اليوم، الكونجرس الأمريكي إلى وضع خطة واسعة النطاق، بدعم من كلا الحزبين، لضخ نحو 190 مليار دولار في البرامج الجديدة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي حيث تخطط الصين لأن تصبح رائدة على مستوى العالم. فهل يكرر التاريخ نفسه؟ يعتقد البعض بذلك انطلاقاً من أنه، وفي نهاية المطاف، لا يمكن لنظام شمولي أن يهزم نظام ديموقراطي عريق. الرئيس الصيني شي جين بينغ يرى أن الاتحاد السوفيتي انهار ليس لأن الشيوعية محكوم عليها بالفشل، بل بسبب فساد المسؤولين، وكان من بين التعهدات الأولى التي قطعها كزعيم للحزب الشيوعي الصيني عام 2013 أنه لن يدع ذلك يحدث في الصين. هل هذا ممكن فعلاً في نظام شمولي؟

يحاجج بعض المفكرين بأن الثورة الصناعية الرابعة التي يقودها الذكاء الاصطناعي بات بإمكانها التغلب على أسوأ ما في النظم الشمولية وهو عدم إمكانية معرفة حقيقة ما يدور في مناطق الدولة وقطاعاتها المختلفة بسبب غياب حرية الصحافة والنقد، والمصالح الشخصية الضيقة للمسؤولين، وبالتالي لا يعود ممكناً إحداث إصلاحات تؤدي إلى تحسين حياة الناس. فالثورة الصناعية الرابعة تتيح جمع كمية كبيرة من البيانات عن الأشخاص والأماكن والبيئة باستخدام التقنيات المتطورة وإنترنت الأشياء وتشغيل برامج الذكاء الاصطناعي في تحليلها، ما يوفر إمكانية التغلب على العوامل التي دمرت الاتحاد السوفييتي وأهمها الفساد وغياب الشفافية. السؤال الأشمل المطروح اليوم بقوة من قبل العديد من المفكرين الغربيين هو: هل يمكن للعدالة الرقمية أن تتفوق على الديموقراطية الأمريكية؟

 

في عام 2012 قال بايدن الذي كان نائباً للرئيس لشي جين بينغ الذي كان نائباً للرئيس أيضاً: "كأميركيين، نرحب بالمنافسة. إنها جزء من شيفرتنا الوراثية، وهي تدفع مواطنينا للارتقاء إلى مستوى التحدي". نأمل أن يستمر الصراع ضمن هذا الإطار السلمي.